فقه الصلاة
حسن الهواري
مقدمة:
لا يشك أحدٌ في أهمية الصلاة ومكانتها وعظمتها، وهناك بعض الأمور تؤكد هذه الأهمية والمكانة وتبينها منها ما يلي:
1/ إنها الركن الثاني من أركان الإسلام ودعائمه بعد التوحيد.
2/ إنها فرضت فوق السماوات السبع بخلاف الأحكام الأخرى.
3/ كان فرضها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة ومن غير واسطة.
4/ إنها أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة.
5/ لم يختلف أهل السنة في كفر من ترك عملاً وهو يعتقده إلا في الصلاة.
6/ إنها لا تسقط بعجز ولا مرض ولا غير ذلك إلا بزوال عقل.
المسألة الأولى: في بيان فرضية الصلوات الخمس:
أجمع المسلمون على فرضية الصلوات الخمس على كل أنثى أو ذكر من المسلمين دون شروط سوى: العقل والبلوغ.
ويدل على هذا الإجماع نصوص عديدة من الكتاب والسنة، منها على سبيل المثال نذكر دليلين أحدهما من الكتاب والآخر من السنة.
1/ قال الله - تعالى -: (وأقيموا الصلاة) في عدة مواضع من القرآن الكريم.
2/ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ المشهور: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألاّ إله إلا الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة … الحديث)) متفق عليه.
والنصوص في هذا كثيرة جداً، والمقصود التنبيه.
ولما كان وجوب الصلوات الخمس لا يختلف فيه اثنان، وقع الخلاف بين الفقهاء فيمن ترك هذه الصلوات الخمس وهي:
المسألة الثانية: في بيان حكم تارك الصلاة:
تارك الصلاة قسمان: قسم يجحد وجوبها وينكر فرضيتها ويستهزئ ويسخر من المصلين، فهذا كافر مرتد يقتل ردة ويدفن في مقابر الكفار وتجري عليه أحكام الردة، ولا تقبل منه ولو صلاها ما دام أنه ينكر فرضيتها ويسخر من المصلين، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين.
القسم الثاني: من ترك الصلاة مع اعترافه بفرضيتها، وهذا هو محل الخلاف بين الفقهاء فاختلفوا فيها على قولين:
القول الأول: إنه كافر كفراً مخرجاً من الملة يقتل ردة وتجري عليه أحكام المرتدين فلا يغسّل ولا يكفّن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم ولا يرثه أولاده المسلمون ولا زوجته وأقاربه إلى آخر أحكام المرتدين.
وهذا القول ينسب إلى الحسن البصري وعبد الله بن المبارك وغيرهما وهو رواية في مذهب الإمام أحمد ووجه عند الشافعية.
أدلة هذا المذهب:
1/ قول الله - تعالى -: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) وجه الاستدلال: أن الله - عز وجل - اشترط لثبوت أخوة الدين ثلاثة أمور: التوبة من الكفر، وأداء الصلاة، وإيتاء الزكاة. فإذا انتفى واحد من هذه الثلاثة لا تثبت الأخوة في الدين، وأخوة الدين لا تنتفي إلا بالكفر، فدلّ هذا على أن تارك الصلاة كافر.
2/ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) رواه مسلم.
فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة هي الحد الفاصل بين الكفر والإسلام فمن أداها فهو في دائرة الإسلام ومن تركها خرج عن دائرة الإسلام.
3/ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريدة: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) رواه الترمذي والنسائي وغيرهما وهو حديث صحيح.
فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - على تارك الصلاة بأنه كافر بقوله ((فقد كفر)).
4/ قول التابعي عبد الله بن شقيق - رحمه الله -: ((كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة)).
المذهب الثاني: أن تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً فاسق مرتكب لكبيرة من الكبائر وعظيمة ومهلكة وعلى شفا حفرة من النار، وفيه شعبة من شعب الكفر غير أنه ليس بمرتد ولا خرج عن ملة الإسلام.
وهذا مذهب الجمهور: الحنفية والمالكية والشافعية والرواية الصحيحة عند الحنابلة وغيرهم من جماهير أهل العلم.
أدلة هذا المذهب:
1/ عموم أدلة الكتاب والسنة التي تفيد أنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إذا شاء عدا الكفر والشرك كقول الله - تعالى -: ) إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال لا إله إلاّ الله يبتغي بذلك وجه الله دخل الجنة))، وقول الله - سبحانه - في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم إذا لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً غفرت لك ولا أبالي)).
2/ أدلة خاصة منها:
أ/ حديث عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عهد عند الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) رواه أبو داود وغيره.
2/ حديث الشفاعة الطويل، وفيه قول الله - عز وجل -: ((وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله))، وفيه أيضاً قول المؤمنين: ((ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا ويجاهدون معنا فأدخلتهم النار، فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم ـ وفي رواية ((لم تغش الوجه)) ـ فيعودون فيتكلمون فيقول: اخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان …)) إلى آخر الحديث وفيه يقول الله - عز وجل -: ((شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار ناساً لم يعملوا لله خيراً قط)) الحديث صحيح بعضه في البخاري ومسلم وبعضه في غيرهما.
وجه الاستدلال من الحديث من ثلاثة أوجه:
أ/ قول الله - تعالى -: ((لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله)) فيدخل في هذا تارك الصلاة.
ب/ شفع المؤمنون في المصلين ثم رجعوا بعد ذلك فشفعهم الله فيمن كان في قلبه شيء من الإيمان وهو ليس من المصلين.
ج/ القبضة التي قبضها الرحمن - سبحانه - لم يعملوا خيراً قط، يعني سوى التوحيد فهم لا يصلون بداهة.
3/ الدليل الثالث: حديث حذيفة ((يَدْرُس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله - عز وجل - في ليلة فلا تبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة ((لا إله إلا الله)) فنحن نقولها فقيل لحذيفة: وما تنفعهم؟ قال: تنجيهم من النار ().
الجواب على أدلة المذهب الأول:
أما الآية (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) فالمقصود: تابوا عن الكفر ورجعوا إلى الإسلام، وذكر الصلاة والزكاة لتكون علامة على توبتهم، يدل لهذا أن أصحاب المذهب الأول لا يكفّرون تارك الزكاة. فإن قيل: لم نكفّر تارك الزكاة لأنه خرج بنص آخر، قال الجمهور: وكذا تارك الصلاة خرج بالنصوص التي ذكرنا.
وأما الأحاديث فإن الكفر المذكور فيها محمول على الكفر الذي لا يُخْرِج من الملة مثل ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) ومثل ((من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر)) ومثل من قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله، وغير ذلك من النصوص.
الجواب عن أدلة الجمهور:
أولاً: الأدلة العامة من الكتاب والسنة مخصوصة بالأدلة الخاصة التي ذكرنا.
وأجابوا عن حديث حذيفة بأن هذا في قوم معذورين في ترك الصلاة لكونهم لا يعلمون عنها وقد انطمس الإسلام ومعالمه فلا يدرون إلا قول ((لا إله إلا الله)).
قلت: والمسألة ولا شك إنها من عويص المسائل والخلاف فيها قوي جداً والأدلة وإن أجيب على بعضها لكن بقي بعضها سليماً من المعارضة. وفي المسألة قول وسط أرى أنه أولى وأحسن وبه تجتمع الأدلة وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -، وقبل أن نذكر هذا القول إليكم هذه القاعدة الهامة:
وهي أن الكفر نوعان:
أ/ كفر اعتقادي وهو مخرج من ملة الإسلام مثل: من ينكر رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ينكر شرائع الدين وما شابه ذلك.
ب/ كفر عملي وهو نوعان:
1/ ما يضاد الإيمان مثل: السجود لغير الله، والاستهانة بالمصحف، وقتل الإنبياء ونحو ذلك، وهذا النوع أيضاً مخرج من الدين.
2/ نوع لا يضاد الإيمان مثل: قتال المؤمن، والاستسقاء بالنجوم، وكثير من المعاصي التي أطلق عليها الشرع اسم الكفر.
وبناءً على هذه القاعدة فإن تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً ينبغي ألاّ يخرج من الدين إلاّ إذا اقترن بتركه ما يدل على الكفر الاعتقادي كأن يصر على تركها وهو يدعى إلى فعلها من قبل الحاكم ويرى بارقة السيف على رأسه ويشد للقتل وتعصب عيناه ويقال لـه: تصلي وإلا قتلناك فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبداً وعلى هذه الحال تحمل أدلة التكفير.
وقال ابن تيمية - رحمه الله -: إنّ تارك الصلاة إن كان مقراً بها في الباطن معتقداً لوجوبها فإنه يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل ولا يصلي فإنّ هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم، ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام … ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها ولا ملتزماً بفعلها فهذا كافر باتفاق المسلمين كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة كقوله - صلى الله عليه وسلم - ((ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة)) أهـ.
ولهذا لما سئل الشيخ ـ أعني ابن تيمية ـ عن حكم تارك الصلاة ذكر الكلام المذكور أعلاه وقال: فأمّا من كان مصراً على تركها لا يصلي قط ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة ويتركونها تارة فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها وهؤلاء تحت الوعيد وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن من حديث عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - … وذكر الحديث المتقدم ((إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له)).
قلت خلاصة هذا القول:
إن الرجل ـ وكذا المرأة ـ إذا ترك الصلاة ودعي إليها وقيل له: نقتلك أو تصلي فأصر على الترك فهذا كافر خارج عن الدين وعليه تحمل أدلة التكفير. أما من كان يصلي أحياناً ويترك أحياناً ومات على ذلك فهذا لا نخرجه من الملة بل هو تحت مشيئة الله - عز وجل - كما دلّ على ذلك حديث عبادة رضى الله عنه.
وبقي أن نذكر أن الجمهور مع قولهم بعدم التكفير لكنهم يتفقون على استتابة التارك فإن صلى فذاك وإذا لم يصل يحبس حتى يصلي أو يموت عند الحنفية ويقتل حداً عند الشافعية والمالكية والحنابلة.
هذا ولا يفهم من القول بعدم تكفير تارك الصلاة تقليل من شأنها، بل هي أعظم أركان الدين العملية ومن علامات الفلاح والصلاح وتركها من علامات الخزي والخذلان، فمن كان لا يصلي لابدّ أن يؤمر بالصلاة وينصح ويخوَّف ويهجر إذا كان الهجر يجدي فيه، ويبغض في الله - عز وجل - أعظم البغض غير أن لا يصل إلى درجة بغض الكافرين، وقد ذكرت في أول الباب بعض ما يشير إلى عظمة الصلاة وأهميتها وما لم يذكر أكثر، والله - تعالى -أعلم.
المسألة الثالثة: الأذان والإقامة
نقتصر من أحكام الأذان والإقامة على تنبيهات هي:
1/ إن الأذان فرض كفاية إذا تركه أهل بلدة أثموا جميعاً وإذا وُجِد من أذن سقط الوجوب عن الباقين. أما في حق المنفرد فهو سنة يثاب عليها ولا يأثم بتركها وكذلك الإقامة ولا أثر لتركهما في صحة الصلاة.
2/ إن شرعية الأذان والإقامة خاصة بالصلوات الخمس، أما غيرها كالعيدين والاستسقاء والكسوف فلا يشرع لها أذان ولا إقامة بل فعلهما حينئذٍ بدعة.
3/ إذا كانت المرأة منفردة في بيتها أو ليس معها غير النساء أو كان معها من الرجال ما هو محرم لها فلا حرج أن تؤذن حينئذِ ولها ثواب الأذان وكذلك الإقامة لعموم الأدلة.
4/ يسن في حق من سمع الأذان محاكاته إلا في الحيعلتين فإنه يقول حينئذٍ: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم يقول بعد نهاية الأذان: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته. هذا لفظ البخاري ومسلم. فمن فعل ذلك حلَّت له شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر بذلك الصادق المصدوق - عليه الصلاة والسلام -.
5/ التنبيه على بعض مواضع اللحن في الأذان والإقامة، ونقصد باللحن الخطأ النحوي أو اللفظي، من ذلك:
أ/ قول كثير منهم: الله أكبرَ ـ بفتح الراء ـ والصحيح الضم؛ لأنها خبر مبتدأ مرفوع.
ب/ قول بعضهم آلله أكبر بمد الهمزة من كلمة (الله) وهذا خطأ مخل بالمعنى؛ لأن جملة الله أكبر خبرية، وقوله: آلله أكبر استفهامية أي هل الله أكبر؟
ج/ قول بعضهم الله (أكبار) بمد الباء، وهذا خطأ فاحش وعظيم؛ لأن الأكبار جمع كبر وهو الطبل الذي يضرب عليه اللاعبون وغيرهم كالدف ونحوه.
د/ بعضهم يقول: أشهد أنّ لا إله إلا الله، بأنّ المشدّدة، والصواب أنْ المخففة والمدغمة في (لا) فتصير (ألاّ).
هـ ـ كثير منهم يقول: أشهد أنّ محمداً رسولَ الله، بفتح لام رسول، وهذا خطأ؛ لأن محمداً اسم أنّ منصوب ورسولُ خبر أنّ مرفوع وبذلك تتم الجملة. أما إذا قيل رسولَ بالفتح فإن كلمة رسول حينئذٍ تكون صفة لمحمد ويكون الخبر لم يأت بعد والجملة ناقصة فكأنه يريد أن يقول مثلاً: أشهد أنّ محمداً رسول الله خاتم النبيين، ونحو ذلك.
وغير هذا كثير، والله المستعان.
المسألة الرابعة: شروط الصلاة
الشروط جمع شرط، والشرط في اللغة العلامة ومنه سُمِّيت الشرطة؛ لأن الشرطي له علامات وملابس تميزه عن غيره.
أما الشرط في الاصطلاح:
هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.